الوعي و الجندر ..الجزء الأول ..العدد الخامس ..شهر ايار من عام ٢٠٢٣ …
«ماذا يعني أن تكون خفّاشاً؟»، وهل ثمة فارق بين وعي الخفاش الذكر ووعي الخفاش الأنثى؟ طَرحَ توماس نيغل السؤال الأول، ولم يطرح الثاني. ليس لكلٍّ منّا سوى تجربته الخاصة التي يخوضها في العالم. بالتالي، إن إقامة المقارنة بين ضروب الوعي على أيّ أسسٍ هي مسألة صعبة، غير أنها ليست مستحيلة، كما تؤكد صوفي غريس تشابِل.
«ماذا يعني أن تكوني امرأة؟»، قد يَسأل رجل.
«حسنٌ، ماذا يعني أن تكون رجلاً؟»، قد تردّ امرأة.
إن أسئلةَ الـ«ماذا يعني أن تكون» هي دوماً أسئلة محيّرة؛ بل ومستحيلة الحل، قد يضيف بعضهم. فإذا كان بوسع امرأة أن تجيب عن سؤال «ماذا يعني أن تكون رجلاً؟» (أو العكس)، فمعنى ذلك أن بوسعها أن تشغل زاوية نظر الرجل ذاتها إزاء العالم. وسيعني ذلك، بالتالي، أن وعيه، أو وجهة نظره الذاتية، يمكن أن تصبح وعيها هي.
لكنْ، كيف لذلك أن يحدث؟! إن «زاوية نظري الذاتية» ليست زاوية نظرٍ بالمعنى الحرفيّ، مثل قمة «مقعد آرثر» مثلاً، بحيث يمكن أن أشغلها، أو أُخليها لأدعكَ تَشغلُها. وليس الوعي سماعةَ رأسِ واقعٍ افتراضيّ يمكن لأي شخص ارتداؤها. فأنا لا أستطيع ببساطة أن أناولك النظارات الواقية لتجربتي وسماعة أذنيها، بحيث تستطيع أن تختبر، على نحو مباشر بِقدري، ماذا يعني أن تكون أنا.
وحتى إن كان وعيي سماعة رأسِ واقعٍ افتراضي تستطيع أن ترتديها ببساطة، ما الذي ستحصل عليه بارتدائها؟ إنك لن تحصل على تجربتي، بل على تجربتكَ عن تجربتي. ومن الجليّ أن ذلك ليس ما كنتَ تسعى إليه عندما سألت: «ماذا يعني أن تكون أنا؟».
لكن، وعلى الرغم من مجرى هذا الاعتراض، فإننا يجب أن نتمسّك بحقيقية مهمة غالباً ما تحجبها الفلسفة. إن وعي الآخرين، أو حيواتهم العقلية، ليست، في بعض الأحيان على الأقل، معروفةً من قبلنا إلا من خلال الملاحظة. لقد اعتبر معظم الفلاسفة، على الأقل منذ زمن ديكارت، أن «خصوصيّة العقليّ» أمرٌ مفروغٌ منه. غير أن الحالات العقلية قد تكون أحياناً عامّة بقدر أيّ شيء آخر. فعندما تضرب إبهامك بالمطرقة، أرى، على نحو مباشر، أنك تتألم. وعندما يخرج وزيرٌ مترنحاً من شارع داونينغ، أرى، على نحو مباشر، أنه مخمور حتى الثمالة. وحين يهين متنمّرُ المدرسةِ التلميذةَ الخجولة أمام الصف كلّه، فإن إحراجها المُتألِّم ليس خاصاً، كما كانت معظم حالاتها العقلية السابقة. إنها، بسبب كونها خجولة، متخصصة في الاختباء؛ لكنّ ذلك تحديداً هو مصدر عذابها وهي تواجه استهزاءات المتنمّر: حالتها العقلية هذه عامة، مرئية للجميع على نحو مباشر. بالنتيجة، في هذه الحالات وكثير غيرها، العقليّ ليس خاصاً على الإطلاق؛ على الأقل ليس إن كان «الخاص» يعني «غير قابلٍ للملاحظة». وعلى الرغم مما يراه ديكارت، عندما نسأل أسئلة الـ«ماذا يعني أن تكون»، ليس بالضرورة أن تكون أسئلتُنا على الدوام غير قابلة للإجابة؛ أو حتى صعبة الإجابة.
أحد المصادر ذائعة الصيت لأسئلة الـ«ماذا يعني أن تكون» هو بحث توماس نيغل الكلاسيكي «ماذا يعني أن تكون خفاشاً؟». 1 من البديهي، وفقاً لنيغل، أن هنالك «شيئاً ما» يعني أن تكون خفاشاً؛ ثمة حقائق حول ما يعني أن تكون خفاشاً؛ للخفافيش وعيٌ مثلنا تماماً. إلا أن للخفافيش وللبشر أنواعَ وعي مختلفة أشدّ الاختلاف. على سبيل المثال، يؤدّي تحديد الموقع بالصدى بالنسبة إلى الخفافيش الوظيفةَ ذاتها تقريباً التي يؤديها النظر بالنسبة إلى البشر. لكن، وعلى الرغم من أنهما متماثلان وظيفيّاً، فمن الواضح أنه لا بدّ أن تكون هنالك فوارق بين تجارب الرؤية الذاتية وتجارب تحديد الموقع بالصدى الذاتية. إن اختلاف وعي الخفاش عن وعي البشر هو حقيقة، تماماً كما أنّ اختلاف أجساد الخفافيش عن أجساد البشر اختلافاً كبيراً هو حقيقة. لكنْ، كيف للحقائق المتعلقة بالوعي أن ترتبط بالحقائق المتعلقة بالأجساد؟ يعتقد نيغل أن هذا لغزٌ فلسفيّ عويص: لغزٌ يمكن أن ندعوه «مشكلة الجسد-العقل». فمن ناحية، لا نستطيع أن نفسّر بسهولة كيف يتصل هذان النوعان من الحقائق، إنْ كانا يتصلان قط. ومن ناحية أخرى، لا نستطيع أن ننكر ببساطة وجود أيٍّ من نوعي الحقيقة هذين. إن مشكلة الجسد-العقل تتركنا في حيرة؛ وربما يجب أن تتركنا كذلك.
إلى جانب سؤال «ماذا يعني أن تكون خفاشاً؟»، يمكن لنا بالمثل أن نطرح السؤالين اللذين بدأتُ بهما: «ماذا يعني أن تكون رجلاً؟» و«ماذا يعني أن تكوني امرأة؟». هل ثمة شيء مميّز يجعلك رجلاً أو امرأة، مثلما هنالك شيء مميز يجعلك خفاشاً أو إنساناً (أو كلباً، أو لاما، إلى آخره)؟ وعلى مستوى وعينا، هل هنالك «عالَم رجل» و«عالم امرأة؟» هل هنالك حيّزا وعي منفصلان، ولكلٍّ منهما نكهته الخاصة؟
إن الجنس متمايز عن الجندر (النوع الاجتماعي)؛ سأشرح ذلك خلال دقيقة. بالتالي، يمكن كذلك تقسيم السؤال إلى سؤالين. يمكن لنا أن نسأل فيما إذا كان هنالك شيء مميز يجعلك ذكراً أو أثنى «female/male» (سؤالٌ يخص الجنس). ويمكن لنا كذلك أن نسأل فيما إذا كان هنالك شيء مميز يجعلك ذكورياً أو أنثوياً «feminine/masculine» (سؤال يخصّ الجندر).
أعتقد أن الإجابة عن كلا هذين السؤالين هي «نعم، على نحو واضح». لماذا نعم؟ ولماذا على نحو واضح؟
ثمة شيء مميز يجعلك ذكراً أو أنثى، لأن جانباً أساسياً -وواضحاً وضوحاً شديداً- من ما يعني أن تكون إنساناً هو الجسديّة. إن وعينا بأجسادنا متجذّرٌ في بقية وعينا كلّه تقريباً. (ثمة «تجارب الخروج من الجسد» طبعاً، لكنها استثنائية). إن شكل أجسادنا، وإدراكنا لأجسادنا من «داخلها»، هو شرطٌ أساسٌ لشكل ظاهريّاتنا: ما يعني أن نكون بشراً هو، في جزئه الرئيسي، ما يعني أن يكون لدينا جسدٌ بشري. (لاحظوا كيف أن هذه النقطة يمكن أن تساعدنا في سؤال نيغل الاستهلالي «ماذا يعني أن تكون خفاشاً؟» وفي سؤال نيغل اللاحق: كيف ترتبط حقائق الأجساد بحقائق الوعي؟ لاحظوا أيضاً أنها لا تستطيع أن تساعدنا في هذين السؤالين).
تختلف أجساد الذكور والإناث، وبطرق فارقة. الذكر والأنثى مختلفان بالشكل عادة؛ فهما مختلفان، على سبيل المثال، في الأعضاء التناسلية، في وجود أو عدم وجود ثديين، في توزع دهون وشعر الجسم، في الحجم، وفي التوزيع العضلي. كما إن الذكر والأنثى خاضعان لحساسيّات مختلفة: الإناث أكثر شعوراً بالبرد، الذكور أقلّ قدرة على التعامل مع اضطرابات النوم. وهما كذلك يتأثران بإفرازاتٍ هرمونية مختلفة تحدث وفق جداول زمنية مختلفة، وتترك تأثيرات مختلفة على حالاتهما المزاجية وميولهما. على نحو مبسّط: تختبر الإناث (أو معظمهنّ ضمن فئة عمرية معينة) دورة طمثية، في حين أن الذكور يختبرون (أو معظمهم ضمن فئة عمرية معينة) التستوستيرون. حتى أن أجساد الذكور والإناث لها رائحة مختلفة (أَستنتجُ أن هذا مرتبط بالاختلافات الهرمونية).
في حالة التمييز القائم على الجنس (ذكر/أنثى) ما يهم هو الجسديّ؛ أما في حالة التمييز القائم على الجندر (ذكوري/أنثوي) فما يهم هو السياسيّ. يختلف وعي الذكر عن وعي الأنثى لأن أجساد الذكور والإناث تختلف؛ بينما يختلف الوعيان الذكوري والأنثوي لأن أدوار الذكر والأنثى السياسية اختلفت. بالتالي، ثمة شيء مميز يجعلك ذكورياً أو أنثوياً، لأن جانباً أساسياً -وواضحاً وضوحاً شديداً- من ما يعني أن تكون إنساناً هو الحياة السياسية.
وأعني هذا بالمعنى الواسع لكلمة «سياسيّ». فحيثما يوجد بشر، توجد علاقات قوة. وأحد أسسِ علاقاتِ القوة هذه هو إدارة التوقعات. إن مهمة التنبؤ بسلوك البشر الآخرين (سواء كانوا أفراداً أو مجموعات) هي مهمة جسيمة على نحو مُستعصٍ. ولهذا نختزلُ هذه المهمة إلى اتساقاتٍ قابلة للإدارة من خلال الأعراف والتابوهات، التوقعات والاتكالات، الاتفاقيات والتفاهمات، التقاليد والقواعد. ومن هذه الحقيقة، بمرور الزمن، تنشأ الإيديولوجيا.
إن محور الكثير من هذه الأعراف، التابوهات…إلى آخره، هو تنميط البشر الآخرين. وإحدى الطرق الواضحة لتنميطهم هي من خلال جنسهم البيولوجي (سواء كان فعليّاً أم محسوساً). ومن هذه الحقيقة، بمرور الزمن، تنشأ إيديولوجيا الجندر: نُراكِمُ قصةً حول نوعِ الدور الاجتماعي، أو الدور الجماعاتيّ، الناتج عن الانتساب إلى أحد الجنسين البيولوجيين.
لصوفي غريس شابل ترجمة سارة حبيب