العدد السادس .. حزيران من عام ٢٠٢٣ … الوعي و الجندر الجزء الثاني
إن مفاهيمنا عن «الذكوري» و«الأنثوي» هي، تحديداً، قصصٌ من هذا النوع. ومن الواضح منذ بداية ثقافتنا أن هذا النوع من القصص بوسعه أن، وهو بالفعل، يرمّز ليس لعلاقات قوة وحسب، بل لاضطهادٍ كذلك. ومن الواضح أيضاً أن هذه كانت وظيفة تلك القصص عبر التاريخ.
«لكن، لحظة»، قد يعترض بعض الناس على هذه النقطة: «الوعي مجرد إدراكٍ ذاتي للعالم! ما علاقة السياسة بما إذا كان الوعي مُجندَرَاً؟». وإجابتي هي أن ذلك الاعتراض يعزو نقاء زائفاً -موجَّهاً بالإيديولوجيا- وروحانياً للوعي. إن فلسفة العقل، بالإذن من العديد من مفسّريها المعاصرين، ليست دراسة حيادية أخلاقياً أو بريئة إيديولوجياً. فلسفة العقل هي جزء من «العلوم الإنسانية»؛ السياسة لها كلّ العلاقة بها. لذلك، عندما صكّ كارل ماركس عبارة «الوعي الطبقي» (Klassenbewusstsein)، لم يكن ذلك الاستخدام لكلمة «وعي» مجرد تَمَاثُلٍ صوتيّ. إننا، نحن البشر، كائنات جسدية وسياسية في الآن ذاته: شرطنا السياسي يشكّل إدراكنا للعالم تماماً مثل شرطنا الجسدي.
أتذكر زيارتي لبلغاريا قبل نهاية الشيوعية، وشدة دهشتي باختلاف لغة جسد الناس هناك عن مدى تماسك الناس في إنكلترا: الأكتاف المحنيّة، رفض النظر في عيون واحدهم الآخر، وكيف أنه حتى المشي عبر حشدِ محطة السكك الحديدية له شكلُ مشية جانبية مختلسة، بالإضافة بالطبع إلى التلفّت الدائم المُحترِس من رجال الشرطة الذين كانت لغة جسدهم مختلفة تماماً عن لغة جسد الجميع: كانت لغة جسدٍ مختالة، وقحة، غير مبالية؛ لغة جسدِ المتغطرسِ المتحكم، متنمّرِ المدرسة مرة أخرى. وربما يكون من المبتذل القول إنه عنما تعيش في ظلّ دكتاتوريّة، فأنت في حالة حذرٍ دائم؛ لكنها حقيقةٌ حرفية. إن واقع الرقابة كليّة الوجود يشحن تجربتك كلّها بإحساس بالعطَب، الهتك، والعري.
إن الوعي ليس تجريداً خاملاً: إنه، من بين أشياء أخرى، مشحونٌ سياسياً. كما أن الاضطهاد ليس محضَ تجريد: بالنسبة إلى المُضطَهَدين، يُشكِّلُ الاضطهاد جميع جوانب رؤيتهم لبيئتهم؛ للعقبات والإمكانيات، للتهديدات والفُرَص، التي تعترض طريقهم. وكما يَردُ في تراكتاتوس فيتغنشتاين (6.43): عالمُ الشخصِ المضطَهَد مختلفٌ عن عالم الشخص الحرّ.
خلاصة القول إذاً: الوعي مُجندَر، ومجندرٌ على نحو واضح، لأن الوقائع السياسية لما يعني أن تكون ذكورياً، وما يعني أن تكون أنثوياً، مختلفة على نحو فارق. علاوة على ذلك، الوعي مُجنسَن، ومجنسن على نحو واضح، لأن الوقائع الجسدية لما يعني أن تكون ذكراً، وما يعني أن تكوني أنثى، مختلفة على نحو فارق. وذلك هو السبب في أن الإجابة عن سؤالينا ليست «نعم» وحسب، بل «نعم على نحو واضح».
عند هذا الحدّ، أتوقع أن أواجه اعتراضين: اعتراضٌ (إذا جاز التعبير) من اليمين، وآخرُ من اليسار. سيتمحور اعتراض الجناح اليمينيّ حول ما قلتُه للتو عن التمييز الذكوري/الأنثوي والاضطهاد السياسي. وسيكون الاعتراض على الشكل التالي: «لا تستطيعين أن تناقشي أن الجندر مُضطهِدٌ الآن بالإشارة إلى أنه كان مُضطهِداً في السابق!» أما اعتراض الجناح اليساري فسيكون، على العكس، حول ما قلتُه سابقاً حول تمييز الذكر/الأنثى ومسألة الاختلاف الجسدي، وسيكون على الشكل التالي: «يا للعجب! اختلافاتٌ فطرية بين الذكور والإناث على أساس أجسادهم؟ يا لكِ من متحيزة جنسياً!».
على اعتراض اليمين، إجابتي هي أن الجندر هو إيديولوجيا تضطهِد البشر في مجتمعاتنا. وعلى الرغم من أن الاعتراض محق تماماً من حيث أنه يلفت انتباهنا إلى حقيقة التغيير التاريخي؛ وهي حقيقة وثيقة الصلة دوماً عند التفكير بالسياسة، لكنها عُرضة جداً للتلاشي عند التعاطي مع الفلسفة، حتى عندما تكون تلك الفلسفة هي فلسفة الأخلاق. علاوة على ذلك، إن تلاشي إمكانية التغيير بمرور الزمن يغدو أكثر سهولة عندما نتعاطى فلسفة العقل.
يخفق البشر أحياناً في ملاحظةِ أن علم الأخلاق هو دراسة خاضعة للتاريخ وللسياسة. وحتى عندما يلاحظون ذلك، فإنهم يظلّون (كما قلتُ مسبقاً) ميالين جداً لأن يتبنوا افتراضاً خاطئاً يقول بأن فلسفة العقل، على عكس فلسفة الأخلاق، هي دراسة لا سياسية. إن استفساراتنا حول أسئلة من قبيل «هل الوعي مُجندَر؟» يمكن أن تُقوَّض بسهولة نتيجةَ مثل هذا الخطأ. وما من حقيقة أزلية حول ما يُجيب عن هذا السؤال: الجندر إيديولوجي وسياسي، والإيديولوجيات والسياسات تتغير. بالتالي، حتى إن كان الوعي في الحقيقية مُجندرَاً دائماً، فإن هنالك طرقاً مختلفة لجندرته، وفقاً للإمكانيات السياسية والإيديولوجية المختلفة. وبما أن الإيديولوجيا ليست دائماً سيئة أو مؤذية -بعض الإيديولوجيا بالفعل ليست مؤذية على الإطلاق- يصبح بإمكاننا أن نطرح هذا السؤال: كيف ستبدو إيديولوجيا جندر حميدة؟ وهل ثمة طرق للإبقاء في مجتمعنا على التمييز الذكوري/الأنثوي، أو تمييز ذكوري/أنثوي، على نحو يكون غير مؤذٍ؛ أو حتى مفيداً جداً؟ نعم، أعتقد ذلك. غير أني هنا أكتفي بالإشارة إلى تلك الإمكانية، ولن أحاول استكشافها أبعد من ذلك الحد.
أنتقل الآن إلى اعتراض اليسار. وهو الاعتراض القائل بأنه من التحيّز الجنسي القول، كما فعلتُ أنا، بأن الوعي ليس مُجندراً وحسب، بل مجنسنٌ كذلك لأن هنالك فروقاً جسدية بين الذكور والإناث. وإجابتي هي: مطلقاً، شريطة أن ننتبه إلى أن تمييز ذكر/أنثى ليس المحور الوحيد للاختلاف الجسديّ الذي نلحظه بين أجساد البشر. فبالإضافة إلى تمييز الأجساد البشرية على أنها ذكر/أنثى، يمكن لنا أيضاً أن نميزها على أنها مُسنّة/فتية، معافاة/سقيمة، سمينة/نحيلة، قوية/ضعيفة، متينة البنية/عاجزة، وبطرق أخرى كثيرة. ولو كان سؤالي: «هل يتحدّد الوعي البشري بالصحة/المرض؟»، لكان جوابي على ذلك أيضاً: «نعم، على نحو واضح». ولو كان سؤالي: «هل يتحدد الوعي بالعمر؟»، لكان الجواب ذاته. وينطبق ذلك أيضاً على تمييزات سمين/نحيل، قوي/ضعيف، وكل أنواع التمييزات الجسدية الأخرى التي قد نُعيّنها.
لا بدّ لي من القول هاهنا، أنني في جميع النواحي التي ناقشتها، أَتّبعُ ببساطة منطق حجتي الخاصة. بدأتُ بالقول إن مُحدِّداً أساسياً للوعي البشري أو الذاتية البشرية هو اختبارنا لجسديتنا: ما يعني أن تكون إنساناً يُحدَّد، في جزئه الرئيسي، بما يعني أن يكون لكَ جسدٌ بشري. لكن، ثمة «أنواعاً» عديدة ومختلفة من الجسد البشري. وبالنسبة إلى الكثير من الأنواع المعينة للبشر التي نميّزها من خلال الإشارة إلى أجسادها، فإن ما يعني أن تكون إنساناً من هذا النوع أو ذاك يتّسم بطبيعة مميزة، تُحدَّد من خلال الإشارة إلى نوع الجسد المعني. وواحد من تمييزات الأجساد البشرية هو، بالطبع، تمييز ذكر/أنثى. لكنه، واحدٌ فحسب. وما يسبّب زعم التحيز الجنسي هو افتراض أنني قلت أن تمييز ذكر/أنثى هو التمييز الوحيد الرئيسي بين الأجساد البشرية. غير أني لم أقل ذلك. لم أقل ذلك قط؛ وما قلتُه للتو هو إنكار صريح.
بالنتيجة، هل الوعي مُجندَر؛ أي يتباين وفق تمييز ذكوري/أنثوي؟ نعم، هو كذلك. والوعي مُجنسَن أيضاً؛ أي أنه يتباين وفق تمييز ذكر/أنثى. لكنه أيضاً يتباين عبرَ كثيرٍ من الطرق الأخرى، ومن خلال الكثير من التمييزات الأخرى. وما نقرّر أن نعتبره أكثر أو أقل أهمية من بين هذه التمييزات لا يُحدَّد بالبيولوجيا، بل بواسطتنا.
كملاحظة ختامية: ثمة تمييز آخر قد تتوقعون مني أن أُعيّنه، على الأقل إن صادف أنكم تعرفون القليل عني شخصياً. وهذا التمييز هو تمييز متوافق/متحول؛ أي التمييز بين من هم متحولوّ الجنس ومن ليسوا كذلك (من يُسمّون متوافقي الجنس). إننا نتساءل فيما إذا كان الوعي مجندراً. لكن ماذا عن سؤال: هل الوعي عابر للجندر؟ بكلمات أخرى، هل هنالك شيء مميز ومُحدَّد يجعلك متحوّل الجنس؟
بوصفي امرأة متحولة الجنس، جوابي هو: «نعم، بالتأكيد». أن تكون متحوّل الجنس يعني أن تكون في حالة ارتباط فارقة بتقسيمَيّ الذكوري/الأنثوي، والذكر/الأنثى. ويعني، كما اختبرتُه أنا، أن أجد نفسي غير متفقةٍ مع كلا التصنيفين. فقصتي هي أنني وجدت نفسي مُصنّفة كذكر وكذكوري، في حين أن ما يبدو صائباً وطبيعياً بالنسبة إلي، وما أريده لنفسي، هو أن أصنَّف على الجانب الآخر من هذين التمييزين؛ كأنثى وكأنثوية. وبالتالي، قصتي هذه هي بالتأكيد عن اكتشافي، من بين أشياء أخرى، أن وعيي له سمة محددة ومميزة، ومن الواضح أنها غير موجودة في وعي الناس الآخرين، إلا عندما يكونون متحوليّ الجنس أيضاً.
بالطبع، هنالك قصصُ متحوليّ جنس أخرى ممكنة. (حتى بالنسبة إلى النساء المتحوِّلات؛ الرجال المتحولون وغير مؤكدي الجندر يتحركون في اتجاهات أخرى من جديد). على سبيل المثال، قد لا تهتم إحداهن سوى بالانتقال من ذكر إلى أنثى، وترفض تمييز ذكوري/أنثوي برمته (أي قد تعتبره إيديولوجيا سيئة يجب إلغاؤها ببساطة). أو قد لا تتهم سوى بالانتقال من ذكوري إلى أنثوي، وترفض تمييز ذكر/أنثى تقريباً برمته (أي قد تعتبره بيولوجيا غير مهمة ولا يجب أن تتصدّر الطريقة التي ننظّم بها المجتمع أو نفكر بها في ذواتنا). لكن، مهما يكن من أمر، ذلك هو الحال بالنسبة إلى بعض النساء المتحولات، بمن فيهنّ أنا. نحن نعتقد -ومن الضروري لوعينا أن نعتقد- بأن تمييزي ذكر/أنثى وذكوري/أنثوي يمكن منحهما تعابير سياسية إيجابية وغير مؤذية. كما نعتقد أننا نحن أنفسنا سنكون أفضل حالاً على الجانب المغاير للجانب الذي بدأنا منه في كلا التمييزين.
بوجه عام، البشر (بمن فيهم متحولو الجنس) مصيبون، على نحو قابل للإثبات، في أحكامهم حول ما هو أفضل بالنسبة إليهم. كما أننا نعيش في مجتمع يُفتَرض أن ينال الجميع فيه حيّزاً واسعاً من حريةِ اختيار ما يعتقدون أنه أفضل بالنسبة إليهم، حتى عندما لا يكونون مصيبين. بالتالي، من الصعب أن نفهم لماذا قد يكافح أي شخص ضد السماح لمتحوليّ الجنس بحق تقرير المصير ذاته الذي يعتبره متوافقو الجنس أمراً مُسلّماً به.
لصوفي غريس كابل ترجمة سارة حبيب