إثنيات

التسامح قيمة مركزية من قيم العيش المشترك .. العدد الخامس ..شهر ايار من عام ٢٠٢٣

ثمة سؤال مركزي تثيره الأحداث والتطورات في أكثر من بلد عربي وإسلامي. وهو كيف نعيش معا ونحن مختلفون اثنيا و دينيا و مذهبيا ؟ الإجابة عليه تتلخص في التسامح ، فهو القيمة المركزية التي تنهض عليها قيم العيش المشترك ؟

إن الاختلاف في أي دائرة من دوائر الحياة والفكر، من الحقائق الثابتة والشاخصة في حياة الإنسان بصرف النظر عن بيئته أو تكوينه المعرفي . ولكن في ذات الوقت لا يمكن للإنسان أن يعيش وحده، وإنما هو مجبول على أن يعيش حياة اجتماعية وإنسانية مع آخرين قد يختلفون معه كليا أو جزئيا. وكل المحاولات التي بذلها الإنسان الفرد أو الجماعة لتعميم قناعاته ومواقفه، واستخدام القهر والغلبة لسيادة أفكاره ومعتقداته، لم تفض إلا المزيد من المآسي و العنف أو الاحتقان على أقل تقدير .

لذلك فإننا بحاجة أن نبحث عن إجابة أو صيغ حضارية للتعامل بين حقيقة الاختلاف الإنساني وضرورات العيش المشترك. فلا يمكن أن ندحر الاختلافات أو نطمسها بين البشر، كما أنه لا يمكن أن ينعزل الإنسان وينكفئ عن غيره بدعوى الاختلاف والتباين في وجهات النظر.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن طبيعة الإجابة على هذا السؤال، هي التي ستحدد بشكل أو بآخر طبيعة المستقبل السياسي والاجتماعي للعديد من الدول والبلدان العربية والإسلامية. وإن مظاهر العنف والفوضى التي تشهدها بعض البلدان، هي ليست من جراء وتداعيات حقيقة التنوع والتعددية الموجودة في هذه البلدان، وإنما هي لغياب صيغة حضارية تجمع بين حقيقة الاختلاف الذي لا يمكن نبذه وإنهاؤه من الوجود الإنساني وبين ضرورات العيش المشترك. لهذا فإن الوصول إلى صيغة سياسية وثقافية ومجتمعية لهذا الأمر هو الذي سيحدد شكل المستقبل السياسي للعالم العربي. فكيف يمكن بناء رؤية وطنية في كل بلداننا وأوطاننا العربية لا تغفل حقيقة التعدد والتنوع والاختلاف، ولا تتجاوز متطلبات الوحدة والعيش المشترك.

وإن التغافل عن هذه الحقيقة، أو عدم احترام متطلباتها، هو الذي ساهم بشكل أو بآخر بحالات الفوضى والعنف التي سادت في بعض البلدان العربية والإسلامية. فلا يمكن قهر الناس على رأي وطريقة واحدة، وإن أية محاولة في هذا الإطار لم تنتج إلا المزيد من التشبث بالخصوصيات الذاتية. فلا يمكن تعميم الخصوصيات الذاتية بالقهر والقسر، وإنما بالتوافق والحوار والانفتاح وخلق المساحات المشتركة بين جميع الخصوصيات والمكونات. فالمجتمعات لا تدار بالقسر، والاستقرار لا يتأتى بالقهر، والأمن بكل مستوياته ودوائره، لا ينجز إلا بالتوافق واحترام الخصوصيات وتوطيد أركان العيش المشترك. ومن يبحث عن الأمن والاستقرار بعيدا عن مقتضيات السلم الأهلي وخلق التفاهمات والتوافقات الضرورية بين مختلف الخصوصيات والمكونات، فإنه لن يحصل إلا المزيد من تشبث الناس بخصوصياتهم الذاتية. ولا يمكن لاعتبارات ذاتية وموضوعية، أن تنجح تلك المحاولات والممارسات التي تستهدف تعميم خصوصية واحدة بوسائل قهرية على بقية الخصوصيات.

فالأوطان فضاء مشترك لكل الخصوصيات والمكونات، ولا تبنى هذه الأوطان إلا بإعادة صياغة طبيعة العلاقة بين هذه المكونات والتعبيرات. بحيث تخرج من سياق الاستعداء والتحريض على الكراهية والمفاصلة الشعورية والعملية، إلى حقائق التسامح و سقف قيم العيش المشترك .

ومهما كانت قناعة الإنسان بصوابية أفكاره ومعتقداته، فإن هذا لا يبرر له ولا يشرع له، أن يمارس الفرض والقهر وأدوات السلطة لتعميم أفكاره وقناعاته. فلكل إنسان الحق في الاعتزاز بأفكاره والتشبث بقناعاته والاعتزاز بعقائده، ولكنه ليس له الحق في قهر الناس عليها، وممارسة أساليب قسرية لتبنيها.

فالكثير من المشاكل السياسية والثقافية والأيدلوجية، التي تعاني منها بعض البلدان العربية والإسلامية، هي من جراء هذه الرؤية والممارسة. حيث التعصب الأعمى هو الذي يسود في مجمل التفاعلات ذات الصلة بالأنسان و المجتمع ، مما يقود إلى التوسل بوسائل القهر والظلم لتعميم هذه الأفكار والقناعات على بقية المواطنين. فالأحزاب الأيدلوجية التي حكمت في بعض البلدان العربية، وعملت بوسائل سلطوية وقهرية لتعميم أيدلوجية الحزب. هي بهذه الطريقة لم تعالج مشاكل المجتمع والوطن الذي تنتمي إليه، وإنما فاقمتها وبنت حواجز إسمنتية بين مختلف مكونات شعبها.

ونظرة واحدة إلى الدول العربية، التي حكمت من قبل أحزاب أيدلوجية، يجعلنا نكتشف هذه الحقيقة، ونكتشف أن قهر الناس على فكرة ما، وأيدلوجية ما، لا ينتج إلا الحقائق المضادة لتلك الفكرة والأيدلوجية. كما أن التشكيلات الأيدلوجية والسياسية التي لا تمتلك سلطة سياسية، وتمارس في مجتمعها ووطنها هذه الممارسات وتتوسل بوسائل وأساليب إقصائية، تنم عن تعصب أعمى للذات وأفكارها. فهي لا تنتج الأمن والاستقرار، وإنما على العكس من ذلك تماما.

فلكل إنسان على وجه الارض، الحق في أن يحمل فكرة أو يقتنع برؤية ومشروع، ولكن ليس له الحق في قهر الناس على هذه الفكرة أو الرؤية أو المشروع.

فالاختلاف الاثني ، الديني والمذهبي، الفكري والسياسي، لا يشرع لأحد انتهاك حقوق الطرف الآخر بدعوى الاختلاف والتباين في العقيدة أو المذهب أو الفكر أو السياسة. فالاختلافات بكل مستوياتها، لا تشرع الظلم والعدوان وانتهاك الحقوق. بل على العكس من ذلك تماما. وهذه المسألة يجب ان تكون حجر الزاوية في مشروع خلق السلم الأهلي والعيش المشترك في مجتمع متعدد ومتنوع.

وهذا بطبيعة الحال، يقودنا إلى التأكيد على النقاط التالية:

1- إن التعصب الأعمى لأفكار الذات وقناعاتها، يضر بمستوى انتشار وقبول الآخرين لهذه الأفكار. فالتعصب بكل مستوياته، يضر بالأفكار والمعرفة، وينفر الناس منها، ويحول دون توسيع المقتنعين بها.

كما أن هذا الداء النفسي والعقلي والسلوكي الخطير، يحول دون الاستقرار والأمن الاجتماعي. وهناك بونا شاسعا ينبغي الالتفات إليه، بين ضرورات ومتطلبات الدفاع والتبشير بالأفكار والقناعات التي يحملها الإنسان، وبين التعصب الأعمى. فالدفاع عن الأفكار لا يقتضي العدوان على الآخرين، بينما التعصب شكل من أشكال العدوان. ودعوة الآخرين إلى تبني قناعات ومواقف الذات، لا تتطلب وصم الآخر بأشنع الصفات واتهامه بأسوأ الممارسات، بينما التعصب الأعمى يشرع ذلك ويقود صاحبه إلى ممارسات إقصائية وعنفية لا تنسجم ومقتضيات الدعوة بالتي هي أحسن، ولا تتناغم مع حاجات الاستقرار والأمن الاجتماعي.

لذلك فإن إزالة الآثار السلبية للاختلافات، تحتاج إلى الوقوف بحزم ضد ظاهرة التعصب الأعمى. لأن هذه الظاهرة، بمثابة الوعاء الحقيقي للكثير من الآثار السلبية التي تمنع العيش المشترك بين المختلفين. من هنا فإن الوصول إلى حقيقة العيش المشترك والسلم الاجتماعي، يتطلب محاربة ظاهرة التعصب الأعمى وكل النزعات الإقصائية التي لا ترى إلا ذاتها الضيقة.

2- في إطار السعي والعمل المتواصل، لبناء حقائق العيش المشترك في الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي، من الضروري الفصل بين احتكار القوة واحتكار الحقيقة. فليس كل من يمتلك القوة بالضرورة يمتلك الحقيقة . كما أنه ليس بالضرورة أن من يمتلك الحق، يمتلك القوة التي تدافع عن هذا الحق.

والحقائق المطلقة لا يمكن أن يقبض عليها إنسان. لذلك فإن كل محاولات ادعاء امتلاك الحقيقة، هي محاولات لا تستهدف على الصعيد العملي إلا تبرير وتسويغ عمليات النبذ والتهميش والتمييز تجاه الآخرين المختلفين معه. ومن الخطايا المميتة على هذا الصعيد المماهاة بين القوة والحقيقة. وإن كل من يمتلك القوة قادر فعلا على امتلاك الحقيقة.

وهذا هو الذي يهيأ الأرضية الاجتماعية لكل المقولات والممارسات التي تهدم وتمنع بناء أركان وقواعد العيش المشترك في المجتمع المتعدد. فالحقيقة ينبغي أن تكون غاية الجميع، ولا يمكن أن يقبض عليها أحد بوسائل العنف والتعصب والغلو والنفي. فالخدمة الحقيقية التي يمكن أن يقدمها أي إنسان لفكره وقناعاته، هي حينما يبتعد عن كل نزعات التعصب والغلو، لأن هذه النزعات تحول دون المعرفة العميقة والحقيقية لمضامين تلك الأفكار، كما أنها (أي نزعات التعصب والغلو) تمنع إقبال الناس تجاه تلك الأفكار والقناعات.

فالتعصب يميت صاحبه، دون أن يحيا الفكر والمبدأ. لأن هذه النزعة المقيتة تطمس كل نوازع الخير وموجبات العدالة من نفس وكيان المتعصب سواء كان المتعصب فردا أو جماعة.

3- إن العيش المشترك الذي يبدأ بالتسامح صوب الاخر المختلف انما يقتضي ايضا من كل المكونات الاثنية و الدينية و المذهبية ، العمل على إعادة صياغة علاقتها بأفكارها وقناعاتها العامة. فالعيش المشترك لا يعني أن تنحبس كل فئة في إطارها الفكري الضيق، بل يعني الانفتاح والتواصل المستديم مع بقية المكونات، وذلك من أجل نسج العلاقات الإيجابية، وتجاوز كل الأوهام والهواجس تجاه بعضنا البعض. وهذا بطبيعة الحال يتطلب إعادة صياغة العلاقة مع الأفكار والقناعات الخاصة بكل مكون وفئة. بحيث تصبح العلاقة حيوية ومرنة وفعالة.

فالعيش المشترك في أي تجربة إنسانية، و ان كان يرتكز الى قيم من اهمها التسامح الا انه ايضا رؤية واضحة وإرادة صلبة وعمل مستديم باتجاه خلق الحقائق المشتركة وتعزيز متطلبات التلاقي والتفاهم بين مختلف الفئات والمكونات.

هيئة التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wpChatIcon
translate